اذا كانت الخمسة والاربعون هي عمر الجامعة الاردنية، وعمر التعليم الجامعي وعمر المريدية في العلم، في الاردن، فانها ايضا عمر التدهور التدريجي لقيمة مهنة التعليم الاجتماعية، وعمر انحسار الهيبة عن اهلها وعن التعليم نفسه (ينبغي ان لا ننسى ما فعلته الـ 67 فينا).
واذا ما كانت المفارقة مؤلمة، فانها تستحق وقفة جذرية وحلولا خلاقة. اذ كيف يستقيم ان تزداد الحاجة الى اصلاح التعليم نظما واجهزة وفحوى (وهو ما يسمى بالنوعية اليوم) بينما يزدري المجتمع المهنة التي تؤدي الى ذلك؟؟.
فمعلمو المدارس ومعلماتها، لا يختلف وضعهم لدى الناس الان عن معلم الصبيان في الماضي، فلا يؤخذ برأيه ولا يعتد بقيمته. وبينما كان اصحاب المهنة ايقونات مقدسة ترتجف قلوب الفتية والفتيات منها مهابة، صار بالامكان ان يعتدي الصبيان على معلميهم بالضرب.. ومهما تكن حوادث العدوان الجسدي قليلة، فانها مؤشر خطير على مكانة المهنة واهمية التعليم والعلم، وعلى اخفاق المؤسسة التعليمية.
واذا كانت الأسباب عددا لا يستهان به، فان احد اهمها قاطبة ادلجة التعليم وادلجة العلم من بعد. فبها - أي الادلجة - دخلت المهنة ناس عدتها من العلم قليلة، وحمولتها من الشعارات تفوق المقرر وتفيض. وعندما نقول العلم فنعني ما تعلمناه: الموضوعية، والنزاهة في الحكم، والحجاج العقلي، والشك واليقين النسبيين، والامانة العلمية، والتساؤل، والبحث ومناهج التفكير، والخيارات والبدائل، والرأي والرأي الآخر، والسند العلمي، والاحتمالات، وحيز الابداع واستنهاض قوة الخلق والتفكير الحرين.
ومن طويل خبرتي في التربية شاهدت كيف أن اهل التعليم تساهلت تجاه هذه المقومات الأساسية، وظهر لديها انحياز اعمى الى الرأي الواحد ذي البعد الواحد، ومن ثم الى الحفظ والتسميع وتقديس المرجعيات. وهكذا تفرغ المحتوى من القيمة، وعلم ابناءنا وبناتنا وعاظ وواعظات لا مربين ومربيات.. ففقّست اجهزة التعليم - كما تفقس المداجن - اجيالا منومة مغناطيسيا، ذاهبة الى مصائرها دونما ادنى اعتراض.. اجيالا منبتة لا ارضا قطعت ولا ظهرا ابقت..!!.
لقد اصبح التعليم ذرائعياً. وتناوست - حتى انطفأت او كادت - تلك الشعلة المتقدة التي كانت تلهب الروح في اندفاعها نحو العلم وشوقها الى طلابه دون ان يختلط هذا الشوق بغاية اخرى كالوظيفة او المنصب او اللقب العلمي.. أي ان يكون العلم خالصا لوجه العلم.. والسعي للاتصال بروح المعرفة محموما لا يفتر.
وهكذا تدفقت على الجامعات اجيال محو الأمية، فتدهور التعليم الجامعي وتخرب حاله برغم التكنولوجيا وتقدم وسائط التعليم، لقد تعلمنا في الجامعة الاردنية اول ما بدأت في قاعة واحدة ليس فيها سوى مقاعد ولوح اسود ومدفأة على الكاز، ومكتبة من غرفة واحدة.. وخرجت الجامعة آنئذ اقوى دفعاتها على الاطلاق، فالسر في قماشة التعليم اكثر منه في الخياط.
وعلى ذلك فان أي اصلاح للتعليم الجامعي لن يكون جذريا ان لم يصحبه او يسبقه اصلاح للتعليم الاساسي. واذا كان هذا الاخير منوطا امره بوزارة التربية، فان معنى الاصلاح وفحواه لا يأتي الا من الجامعة: قاعدة العلم والبحث العلمي. وليس على الجامعة ان تنتظر المجتمع ليطلب منها العون (وفي هذه الحالة الوزارة) بل عليها ان تبادر وان تخلق علاقة متينة تكون هي فيه قائدة الاصلاح وواصفة مسالكة. ان الجامعة مختبر البحث ومعمل التفكير والابداع، وهي المؤهلة اكثر من سواها للدرس والنظر والاكتشاف والاختراع، وفي يدها ايقاف هذا الاهتراء، وفي يدها تجديد الصحة الروحية في النظام التربوي. ان مصائر الامة الغامضة في ايدي علمائها. ولن يكون انقاذها ببحث علمي ذاوٍ وانجاز شحيح، ولا بعلاقة واهنة مع المجتمع.
ان المرتقى صعب.. ولكن الرائد لا يكذب أهله.
Zuleikha-
[email protected]